صعود اليمين الشعبوي- عودة الشموليات وتهديد التكتل الأوروبي؟

المؤلف: يحيى عالم10.24.2025
صعود اليمين الشعبوي- عودة الشموليات وتهديد التكتل الأوروبي؟

إن صعود اليمين الشعبوي في المشهد الأوروبي يمثل تهديدًا جسيمًا ومخاطر جمة على مستقبل الاتحاد الأوروبي، باعتباره كيانًا إقليميًا مؤثرًا على الصعيدين الإقليمي والدولي، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. هذا الصعود يضع أوروبا في موقف استراتيجي هش أمام روسيا، التي تخوض حربًا ذات أبعاد جيوسياسية في أوكرانيا، ويجعل الوجود الأوروبي يواجه لحظات حرجة على المستوى العالمي مع تفاقم الصراع الجيواستراتيجي مع الصين. هذه الاستنتاجات شكلت خاتمة المقالة السابقة، التي ألقينا فيها الضوء على العوامل التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف وتوسيع قاعدته السياسية والاجتماعية في أوروبا.

لكن ما تخبئه تحولات الخريطة السياسية الأوروبية – وعناصرها الفاعلة الجديدة في المشهد، والمتمثلة في التقدم المذهل لليمين المتطرف كقوة سياسية تتقلب بين المركزين الأول والثاني في العديد من الدول – يشير إلى أن التحولات الجارية لا تعبر فقط عن تغييرات ذات صلة بالبعد السياسي، أي عن صراع سياسي وتنافس انتخابي بين قوى وتكتلات سياسية تقليدية تعترف بالنظام القائم وقواعده المنظمة له، بل يحمل الخطاب السائد مع قوى اليمين المتطرف ما يتجاوز هذا المنحى السياسي إلى استحضار السرديات الثقافية والنزعات القومية المنغلقة التي تنظر إلى أوروبا والدول الأوروبية نظرة هوياتية متجانسة تتلاشى فيها التعددية والتنوع.

لذلك، قد يكون الإقبال على اليمين المتطرف بمثابة احتجاج مجتمعي عبر آليات الانتخاب التي تتيحها الديمقراطية، وهو احتجاج يعبر عن عودة البعد الثقافي المتجانس والهوياتي الرافض للآخر في الوعي الأوروبي. إذ كانت معظم المظاهر التي برز فيها اليمين الشعبوي تشير إلى مدى من الانغلاق والتقوقع على الذات، واستعادة النقاش بشأن القيم السياسية والثقافية، بأساليب وطرائق خطابية لا تخلو من الأحادية، مما يذكرنا بالنزعات الشمولية التي مرت بها أوروبا والمجتمعات الغربية، وما أفرزته من انقسامات وحروب وانغلاق داخل أطر قومية وثقافية حادة الانتماء.

وهذا لا يرتبط فقط باليمين المتطرف في أوروبا، بل بالوضع الذي أصبح عليه العالم بأسره مع الشعبويات، التي تعتبر انعكاسًا لإخفاق مركب وعميق يعيشه النموذج السياسي والاقتصادي والمجتمعي مع الرأسمالية الحديثة وتجلياتها المتعددة، التي تستثمر في الصراعات والكوارث وتؤبدها بهدف الهيمنة والسيطرة والربح.

فالحروب والتوترات الاجتماعية والنزاعات هي فرصة للكسب المادي، وليست دافعًا للتنمية والعدالة والحرية. والأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم والتحالفات الجديدة تؤديان إلى انكماش الدور الأوروبي المعهود، ومعه على المستوى الداخلي بروز التناقضات ذات الصبغة الهوياتية التي يستثمر فيها اليمين المتطرف، مما قد يؤدي إلى انهيار أوروبا برمتها. وهيمنة اليمين المتطرف على السلطة هي مقدمة لعودة الشموليات، التي قد تكون نهاية لتقاليد سياسية، ومعها تكتل إقليمي قادر على صياغة التطلعات الجماعية للشعوب الأوروبية.

عودة الشموليات على جسر اليمين المتطرف

لم يكن من المتوقع أن يحصل حزب الرئيس الفرنسي على نصف ما حصلت عليه الجبهة الوطنية في انتخابات البرلمان الأوروبي، مما دفعه لإعلان انتخابات مبكرة للجمعية الوطنية (البرلمان) في الثلاثين من يونيو/حزيران الحالي. وهي مناورة سياسية من الرئيس الفرنسي لتحجيم اليمين المتطرف، من خلال وضع الناخب الفرنسي أمام ضرورة المشاركة السياسية الفعالة المناهضة لليمين، لمنعه من الحصول على تمثيلية واسعة في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، ومن ثم بشكل ضمني؛ الحيلولة دون وصوله إلى الحكم والسلطة في فرنسا في أقرب انتخابات رئاسية.

وقد كانت حدة الموقف، وتوجيه الاصطفافات في الانتخابات البرلمانية المبكرة من الرئيس الفرنسي، بتوصيف اليمين المتطرف بالقوميين والديماغوجيين الذين يشكلون خطرًا على مستقبل أوروبا ومكانة فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي والعالم. كما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" بأن فوز تحالفها السياسي يخدم الاستقرار، مع انتقادها لليمين واليسار المتطرفين.

وفي هذين الموقفين ومواقف ساسة أوروبيين آخرين، أهمهم المستشار الألماني "أولاف شولتس" بخصوص الانتخابات الفرنسية، تتجلى طبيعة التحدي أمام القوى السياسية التقليدية، ومن ثم طبيعة الصراع السياسي المستقبلي، وفي الأجل القريب في فرنسا.

فالأرقام تشير إلى التوجه السريع نحو الحكم في فرنسا، ولهذا الأمر رمزيته بالنسبة للاتحاد الأوروبي. كما أن وصول مكونات اليمين الشعبوي إلى الحكم في فرنسا وألمانيا سيعني جملة من التغييرات الجذرية بالنسبة لأوروبا.

تتمثل هذه التغييرات في تهديد لمستقبل الاتحاد الأوروبي كمنظمة فاعلة في السياقين الإقليمي والدولي. ولعل هذه اللحظة السياسية في تاريخ الاتحاد الأوروبي تمثل اختبارًا حقيقيًا لم يسبق أن واجهه من قبل. فالاتحاد الآن ليس أمام انسحاب دولة كما حدث مع بريطانيا، بل أمام أيديولوجيا سياسية وسردية ثقافية جديدة تشكل تهديدًا للوجود الأوروبي، وتعيد إلى الأذهان الانقسامات والنزعات القومية التي ظن الكثيرون أنها أصبحت من الماضي.

وهذا ما تعبر عنه آراء الساسة والنخب من الاصطفافات الحادة والديناميات السياسية الجديدة داخل الاتحاد الأوروبي التي تسعى لإيقاف المد الشعبوي الجارف. لكن هل تنجح هذه الديناميات المتولدة من رحم هزيمة القوى التقليدية في الخريطة السياسية الأوروبية في إفراز مسارات بديلة عن الإقبال المجتمعي والسياسي على اليمين؟

ليس الرئيس الفرنسي وحده من وجد نفسه في مأزق ما بعد الانتخابات الأوروبية، وإنما المستشار الألماني شولتس وحزبه أيضًا. تهمنا فرنسا وألمانيا للنظر في مؤشرات صعود اليمين، بالنظر إلى الموقع المركزي الذي تحتله الدولتان وتأثيرهما الكبير على سياسات الاتحاد الأوروبي واستراتيجياته وعلاقاته الخارجية. وبالتالي، فإن التغيير في الاختيارات الاستراتيجية لهذه الدول له علاقة مباشرة بالقوى الممسكة بالسلطة فيها، بينما قد لا يشكل صعود اليمين في دول أخرى تأثيرًا كبيرًا على استراتيجيات الاتحاد الأوروبي.

وقد حصل ذلك مع صعود حزب "إخوة إيطاليا" الذي تقوده جورجيا ميلوني، وأحزاب أخرى من دول أوروبا الشرقية، وذلك يعود أساسًا إلى الأزمة الاقتصادية التي تعانيها إيطاليا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، والتي يعتبر حلها رهنًا بالضرورة بالدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي.

من جهة أخرى، وعلى الرغم من وجود توافق على مستوى السرديات والصبغة العامة التي يتسم بها اليمين المتطرف في أوروبا بشكل عام، في القضايا الهوياتية والثقافية والموقف من الآخر والإسلام والمهاجرين، فإن هناك اختلافًا داخليًا بين أحزاب اليمين نفسها، التي تميل اختياراتها إلى البعد القومي لكل بلد وتراثه الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي. كما يؤثر الواقع الاقتصادي على مدى المرونة والصلابة في الموقف.

يمكن القول إن هناك تباينًا في الرؤى داخل اليمين المتطرف، بين يمين متطرف براغماتي في اختياراته، مثل الحالة الإيطالية، ويمين شعبوي لم يختبر بعد في السلطة والحكم، مثل فرنسا وألمانيا، ولكنه يحمل نزعة منغلقة. هذا التباين سيؤثر حتمًا على كتل اليمين الشعبوي داخل البرلمان الأوروبي، ولن يجعله على موقف واحد.

وقد حصل هذا مع حزب البديل من أجل ألمانيا من قبل، كما سيؤدي حتمًا، في حالة تسلم أحزاب الجبهة الوطنية في فرنسا والبديل من أجل ألمانيا الحكم والسلطة، إلى تصدع بين اليمين المتطرف نفسه، ويدفع باتجاه عودة القوميات والشموليات على أرضية الهويات الوطنية، وليس من منطلق مصالح الاتحاد الأوروبي، مما قد يعني تفكك الاتحاد الأوروبي، وفي حالة أدنى ضعفًا في فاعليته في الاضطرابات الحاصلة في المشهدين الإقليمي والدولي.

خطر تذويب الفروق الثقافية والانقسامات على أرضية الهويات

أشرنا سابقًا إلى أن اليمين المتطرف لا يعبر عن أزمة سياسية فحسب ستطال أوروبا، إنما عن أزمة ذات علاقة بالأبعاد الهوياتية والثقافية ستمس الوعي الأوروبي بأسره، فتعصف بتراكمات ممتدة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وما أسهمت فيه الديمقراطية الليبرالية في صياغة التعاقدات السياسية والاجتماعية المنبثقة من سياقات مؤلمة من الصراعات والحروب والانقسامات.

عادة ما تقبل الشعوب على الخطابات الشعبوية والنزعات الشمولية في لحظات الإخفاق التي تمثلها الخيارات العقلانية. فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحادة التي يمر بها النظام العالمي ألقت بظلالها على قواه الرئيسية، وانعكست بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي وحالة الرفاه التي كانت تعيشها المجتمعات الأوروبية والغربية، والتي تعد أزمة بنيوية كامنة في النموذج الرأسمالي واختياراته الاقتصادية والمالية.

في الواقع، تعد الرأسمالية الحديثة شمولية من الشموليات التي ضربت المجتمع الإنساني، فالشمولية ليست اختيارًا سياسيًا أو ثقافيًا ذا طابع هوياتي منغلق فحسب، بل للشمولية أوجه أخرى قد تظهر بأدوات اقتصادية وسياسية، كما ظهر ذلك مع النموذجين الاقتصادي والسياسي الحديثين. هيمنت صبغتهما الشمولية على السلطة والاقتصاد، وأعادت صياغة تطلعات الإنسان والمجتمع لذاتهما وللحياة وفق نمط قيمي موحد، ألغى التنوع والاختلاف والتعددية عمليًا وإن أقر بها على مستوى الخطاب.

نعم، لقد عملت الرأسمالية الجديدة بأدوات ناعمة وخشنة في آن واحد على الهيمنة على مقدرات الشعوب وخياراتها المادية بما يتيحه النظام المالي الحديث والشركات العابرة للحدود، وفي الوقت نفسه عملت على تصدير نموذج ثقافي واحد باعتباره تجليًا من تجليات التحضر والتقدم الإنساني. وقد تم ذلك بمنطلقات خطابية تركز على الحريات والحقوق والتعددية، ولكن السائد في واقع الأمر هو نزعة أحادية ذات طابع شمولي.

ولا يرتبط ذلك بظاهرة العولمة التي دار بشأنها نقاش وجدل مكثف بين الكوني والخصوصي في الثقافات والهويات، مقابل مسعى حثيث لأمركة العالم وتذويب الفروق والاختلافات الثقافية لصالح الثقافة المهيمنة أو المنتصرة، وهي الليبرالية التي تعني حسب فوكوياما، الذي كتب حينها بإعجاب عن نهاية التاريخ، باعتبار النموذج الرأسمالي هو الذروة التي سيصلها الإنسان الأخير، مع تعبير صريح عن إلغاء التعددية والتنوع الثقافي، أو بالأحرى النظر إلى الديناميات الأخرى الفاعلة، والتي ستظهر بعد وتتعمق فيما بعد، لتزول حالة السحر التي هيمنت على النموذج الجديد.

هنا نود أن نؤكد أن نزعة الهيمنة والشمولية لا تقف عند هذا الحد، بل لها جذور عميقة تمظهرت في أشكال متنوعة، ابتداء من النهضة الأوروبية ثم التنوير والأيديولوجيات اللاحقة، وهي أيديولوجيات تجلت في التعبير عن نفسها في نزعات شمولية، كان من مؤداها حروب طاحنة وانقسامات.

ومن ثم، فإن عودة اليمين المتطرف إلى الأصول الثقافية التي أنتجت كوارث سياسية واجتماعية يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل أوروبا، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل في المنحى الإنساني والمجتمعي.

ختامًا:

إن النزعة الشمولية متأصلة في الثقافة الأوروبية، ولا يعني بروز أنساق سياسية لتصريف التعددية والاختيار السياسي وفق طرائق وأساليب عقلانية تجاوزًا أو تفكيكًا للبعد الشمولي الكامن في الوعي الثقافي العميق. فالأنساق السياسية الحديثة لم تحل معضلة الشموليات، بل وضعت جملة من الأساليب والقواعد لعقلنة الصراع والنزاعات والحروب الدامية التي امتدت على الجغرافيا الأوروبية بدوافع دينية أو أيديولوجية أو سياسية متطرفة.

لذلك، فإن الدولة الوطنية لم تنجح في لجم طموحات النزعات الشمولية، بل أفرزت أسوأ أشكال الهيمنة والحروب عبر التاريخ، وأودت بحياة الملايين في أوروبا. وفي الوقت ذاته، فإن التعاقد الذي دخله الأوروبيون عقب حربين عالميتين مدمرتين قد ينتهي في أي لحظة مع بروز الشموليات من جديد بشعارات وخطاب سياسي وثقافي لا يختلف كثيرًا عن القوميات المتطرفة مطلع القرن العشرين.

لقد كشف الإقبال على اليمين في انتخابات عدد من الدول الأوروبية عن عدم ضمور الاهتمام الشعبي والمجتمعي الأوروبي بالسرديات الكبرى ذات الصلة بالثقافة والهوية، وأظهر في الوقت ذاته أن النقد الذي تمارسه مؤسسات إعلامية ونخب للثقافات الأخرى من منطلق الشمولية والتقليدانية بمنطق الازدراء والسخرية أو المقاربات السطحية التي تفتقر إلى معرفة الآخر معرفة مركبة قد أخفق في إقرار الإيمان بالتعددية والتنوع على مستوى الوعي لدى شرائح واسعة في المجتمعات الأوروبية.

وإذ كانت تزدري الثقافات الأخرى وتضعها موضع السخرية أو عدم الدراسة العميقة التي تؤدي إلى الاعتراف والتعارف الإنساني المعمق، فإنما كانت تعمل على تجييش الشعور الجماعي المعادي للتنوع والإيمان بالاختلاف. وقد عملت النخب والمؤسسات الإعلامية التي كانت تجد في الإسلام والثقافة الإسلامية والمسلمين والشعوب والثقافات الأخرى التي تنتمي إلى الجنوب مادة خام لصناعة الفوبيا والعداء خدمة جليلة لليمين المتطرف، ظهرت آثارها بشكل مباشر في الخريطة السياسية.

إذا لم يتم بناء أفق عقلاني مع كل الثقافات والمكونات التي أضحت جزءًا من النسيج الاجتماعي الأوروبي، وإجراء حوار قائم على الاعتراف بالآخر، فإن نزعة التطرف اليميني ستهيمن بشكل حتمي على كامل أوروبا، ومعها ستتبلور شموليات منغلقة تنتهي حتمًا بالصدام كما حدث في الماضي القريب والبعيد، وسيكون مؤسفًا أن يعيد التاريخ نفسه، ذلك هو مكر التاريخ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة